التخطي إلى المحتوى

“لقد كانت فترةً صعبةً بشكلٍ عام، فكيف إذا كنت تسكنين في منزل يسكنه 28 شخصاً يستخدمون مرفقين صحيين مشتركين، أو منزل آخر يسكنه نحو 30 شخصاً يستخدمون مرفقاً صحياً واحداً!”، تستهلّ ميسّا (اسم مستعار بناءً على رغبة المصدر)، وهي عاملة أجنبيّة قدمت إلى لبنان من إحدى الدول الأفريقيّة، بهذه الكلمات وبلغتها الأجنبية للتعبير عن الوضع الصعب الذي يعيشه عاملون أجانب وعاملات أجنبيات يبحثون/ يبحثن عن لقمة عيشهم/ن في البلد الذي يمر بظروف اقتصادية وسياسية سيئة منذ سنوات.

في 21 شباط/ فبراير 2020، سُجّلت أوّل إصابة بفيروس كوفيد-19 في لبنان. بعدها اشتدت الأزمات التي تحاصر اللبنانيين بشكلٍ مرعب، وسط احتكار كافّة الأدوات والمواد الوقائيّة والأدوية التي قد تكون أملاً لإنقاذ حياة مصاب/ة جرّاء الوباء. هذا إلى جانب انهيار القطاع الصحيّ، وكأنّ الوباء جاء ليكمل حفلة الجنون التي ضربت لبنان.

وبينما غرق اللبنانيون في محاولات النجاة من هذه العدوى، وبأبواب موصدة بإحكامٍ وسط تباعدٍ اجتماعي إلزامي، كانت على مقربةٍ منّهم أحياء لم تعتد أقدامهم وطأتها، حملت منذ ذاك التاريخ ندوباً نتيجة الكثير من الإهمال والخوف والعنصريّة التي عايشتها. عدا ثقل وطأة وباءٍ جاء ليثقل كاهل من أثقلتهم الحياة مشقّات في بلدٍ لا توجد فيه أدنى متطلّبات العيش الكريم.

خاضت ميسّا تجربةً صعبةً وقاسيةً خلال وباء كوفيد-19. “كان كلّ ما حاولت فعله أن أنجو بأقل الأضرار الممكنة، لأنّنا كنّا مجبرين على إخفاء إصابتنا في حال انتقلت إلينا العدوى من الأماكن التي نتنقل بينها للعمل، أو من الذين يتشاركون معنا السكن. إصابة أحدنا تعني إصابة الجميع… ولكن كان علينا إخفاء الأمر، وإلّا فلن يكون واضحاً ماذا سيكون مصيرنا، الطرد من العمل أو المعاملة التمييزية العنصرية أسوأ من ذي قبل”، تُضيف.

“كان الجميع خائفاً من إدخالنا إلى منزله” و”كنّا مجبرين على إخفاء إصابتنا بكوفيد” و”لم نكن نمتلك ثمن المعقّمات”… عمال مهاجرون في #لبنان يروون لرصيف22 كيف استحال وضعهم المعيشي مأسوياً في ظل جائحة #كورونا

تواصل العاملة الأجنبية: “كان الجميع خائفاً من إدخالنا إلى منزله في تلك الفترة. لقد كنت أعمل أحياناً بدوامٍ جزئيّ خلال فترة الوباء، وكانت معظم سيدات المنازل يُعاملنا بطريقة جارحة لمشاعرنا ومهينة، بحيث كان علينا ألّا ندخل بأحذيتنا، ونلزم بوضع كمامتين. كانوا يطلبوننا لتنظيف الأرضيات والشبابيك وتعقيمها، ولكن إذا ما لمسنا شيئاً كالفناجين والكؤوس كانت تسرع السيدة إلى تنظيفه وتعقيمه من خلفنا، بشكلٍ مزعج وكأنّنا نحمل الفيروس”.

تشدد على أن ذلك “كان جدّاً مؤلماً بالنسبة لي. لا يسعني القول إلّا أنّها كانت فترةً صعبةً جدّاً، لأنّ التمييز نحونا زاد بشكلٍ أكبر. وكنّا إذا مررنا بالقرب من أحدهم، نشعر بخوفه وكأنّنا نحمل الوباء”.

لم يختلف الأمر كثيراً مع أيدين، وهي أم لولدين، إذ تقول: “كانت مرحلة الوباء صعبة ومتعبة يملأها الخوف والتمييز والعنف الموجّه ضدّنا. كانت الناس تخاف أن تصعد معي في المصعد نفسه. بسبب بشرتي السوداء، كنت أرى نظرات التمييز المصوّبة نحوي. نظرات الناس في الشوارع لم تكن مريحة حتّى أنّ أصحاب العمل باتوا يخافون من إدخالنا إلى منازلهم، وهذا أيضاً ما جعل وضعنا المعيشيّ أصعب بكثير بحيث كان من الصعب حماية أنفسنا من هذا الوباء وحماية أطفالنا”.

تتجلى صعوبة هذا الوضع المعيشي بشدة في وجود أطفال. تقول أيدين: “أكثر ما كنت أخاف عليه هم أطفالي، خاصة من التمييز الذي لحق بهم. تم منع العديد من الأطفال من اللعب معهم. لقد كانوا يبكون ويشعرون بالغضب الشديد بسبب بقائهم في المنزل، وكنت أنظر إليهم غير قادرة على فعل شيء غير الشعور بالحزن والأسى، لأنّهم لا يملكون الحريّة”. 

وتزيد أنها عجزت في أوقات كثيرة عن تحمل نفقات طفليها. “في تلك الفترة لم أكن قادرة على تأمين شامبو لأطفالي. كما أنّنا لم نكن نمتلك القدرة على شراء المعقّمات. ولهذا كنا نحاول تدبّر أمورنا من المحيط والجيران، ولهذا كنت أحياناً أستخدم الكمامة لعدّة أيّام، أستعملها عندما أخرج من المنزل ثمّ أعود وأقوم بتعليقها”، تردف.

حتى معاناتها مع الإصابة بالفيروس لم تكن هينة. تتابع أيدين: “استيقظت ذاك الصباح بآلامٍ حادّة في رأسي وكأنّي أصبت بنزلة بردٍ، وارتفعت حرارة جسمي. حينها علمت أنّي التقطت العدوى. لم يكن باستطاعتنا تجنّب الوباء، فنحن في النهاية 15 شخصاً في مسكن نتشارك فيه الحمام نفسه، أي لا مفر من نقل العدوى لأولادي أو لغيرهم في السكن. لم أكن أخرج خلال إصابتي بكوفيد ولم أتواصل مع أي منظّمة لطلب المساعدة لأنّني لا أعلم إذا كانت هناك منظّمات أصلاً تساعد”.

ليس هذا السبب الوحيد لإخفاء الإصابة وعدم طلب المساعدة بالنسبة للعمال والعاملات المهاجرين والمهاجرات في لبنان بما في ذلك عن شركائهم/ هن. تزيد أيدين: “كنت خائفةً كذلك إن علم أحدهم فسيكون المبنى بأكمله ملزماً بالحجر الصحيّ. ولأنّنا أيضاً من ذوي البشرة السوداء، وفي الأصل هناك تمييز عنصريّ يواجهنا في كل مكان، فكنت خائفة من الذهاب إلى المستشفى بسبب شعوري بأنّي سأموت في حال ذهبت. أعرف أنّه كان من الضروريّ حجر نفسي كي لا أنقل العدوى لأحد ولكن كنت خائفة أحياناً من إخبار شركائي في الغرفة عن إصابتي. كنت فقط أعزل نفسي في المنزل”.

“فقدنا أحد زملائنا بسبب الوباء، مات بدون أن نتمكّن من طلب المساعدة له… عندما أصيب بالفيروس، كانت زوجته خائفة من الاتصال وطلب المساعدة. الجميع كان خائفاً أن نضطر لترك المبنى أو نتعرّض للإساءة. بعد عدّة أيّامٍ توفي”

عندما أصيبت ميسّا بالفيروس أيضاً لم تُخبر أحداً من أهلها أو من يسكنون معها. “علمت أنني مصابة بسبب الأعراض المعروفة. مررت بليالٍ صعبةٍ وقاسيةٍ، خفت فيها من الموت. لقد كنت أغلي الزنجبيل والليمون والقرفة لكي لا أُضطر للجوء لطلب المساعدة أو الذهاب للمستشفى”، تروي. يُشار إلى أنه لا يوجد دليل علميّ على فعالية الأعشاب في الشفاء من كوفيد-19.

على نحو خاص، كانت أيدين خائفة من أن يموت أحدهم/ إحداهن بسبب كورونا خشية طلب المساعدة. تقول: “تلك المرحلة كانت مرعبة… كنت خائفة جداً لدرجة أنّه لا يمكنني تخيّل فقدان أحدهم… لكنّنا كنّا نتدبّر أمورنا”. 

المؤسف أن ما كانت تخشاه حدث إذ تؤكد: “فقدنا أحد زملائنا بسبب الوباء، مات بدون أن نتمكّن من طلب المساعدة له. هذا اليوم لن أنساه. فقد كان الخوف يسيطر علينا. أعتقد أنّ الكوفيد يتأثّر بمدى قوّة وضعف الجهاز المناعيّ، وربّما لم تكن مناعة الرجل تكفي لمحاربة هذه العدوى. فعندما أصيب بالفيروس لم يعد قادراً على التنفّس والأعراض كانت شديدة. لقد كانت زوجته خائفة من الاتصال وطلب النجدة والمساعدة لكي لا يلاحظ الجيران أنّ هناك إصابة في سكننا. الجميع كان خائفاً لأنّنا عندها يمكن أن نضطر لترك المبنى أو التعرّض للإساءة”.

بنبرة تحسر تُكمل: “بعد عدّة أيّامٍ توفي. جميعنا كنّا خائفين من لمسه بسبب الوباء. بقي ليومين وطلبنا المساعدة من إحدى الجمعيات، لا أتذكّر اسمها. ساعدتنا لدفنه ولا أعلم أين دفنوه. كلّ ما حدث كان بسبب عدم امتلاكنا أوراق إقامة وغيرها، وهذا ما أعاقنا عن مساعدته”.

تلفت ميسّا إلى أنّ كوفيد-19 فاقم وضعهم البائس أصلاً بفعل الأزمة في لبنان. “لقد كان وضعنا مزرياً بحيث جاءت الأزمة الاقتصادية في لبنان، وفقدنا أشغالنا بعدما بات الوضع أكثر صعوبة. لم نكن قبل الوباء نعيش حياة آمنة، لقد كنت أيضاً أعيش في شقة فيها 30 شخصاً، والأماكن التي نعيش فيها غير مؤهّلة وكنا غير قادرين أن نبقى في أمان من التحرّش أو الأمراض التي يمكن أن نتناقلها من الحمّامات المشتركة، أو حتّى على الصعيد النفسي. ولطالما كان الخوف والتمييز يلاحقاننا ولكن هذه المرّة كانت أسوأ من كل المرّات. كانت أشبه برعب لا ينتهي…”.

تقصير وتمييز في خطط الاستجابة

في نيسان/ أبريل 2020، أطلقت حركة مناهضة العنصريّة في لبنان نداءً حثّت فيه الحكومة اللبنانيّة والمنظّمات الدوليّة والمبادرات المحليّة على تنفيذ خطط استجابة شاملة وغير تمييزيّة لوباء كوفيد-19، معتبرةً أنّه يوجد 1.5 مليون شخص غير لبناني في لبنان. مع ذلك، معظم خطط الاستجابة الرسمية لا تأخذ ذلك في الحسبان، وهي معيبة جدّاً وتُعرّض جميع السكان اللبنانيين وغير اللبنانيين للخطر.

وحذّرت الحركة من خطورة الظروف المعيشيّة المترافقة مع انتشار الوباء، والتي تعرّض اللاجئين والعمال والعاملات المهاجرين المستقلّين لخطر العدوى وذلك لأسبابٍ عديدة، أبرزها امتناع اللاجئين/ ات والمهاجرين/ ات عن الذهاب إلى المستشفى للفحص أو العلاج خوفاً من الاعتقال بسبب انتهاء صلاحيّة تصاريح الإقامة.

ويعيش الكثير من أبناء هذه الفئة في مخيّمات أو شقق مزدحمة وليست لديهم أي مرافق للعزل الذاتي، ممّا يعني أن شخصاً واحداً مصاباً يمكن أن يؤدّي إلى زيادة كبيرة في الحالات، بالإضافة إلى أنّه يتوجّب على الكثير منهم العمل لتأمين أكلهم ودفع بدل إيجارات منازلهم، ولذلك هم مجبرون على مخالطة أشخاص آخرين فضلاً عن اضطرارهم للتنقّل باستخدام المواصلات العامّة. ولدى معظمهم وصول محدود إلى المياه النظيفة والمطهرات والقفازات والأقنعة.

“كان كلّ ما حاولت فعله أن أنجو بأقل الأضرار الممكنة”… العمال المهاجرون رهن الكورونا في #لبنان فئة “مهمشة مجهولة المصير، يحاصرها الخوف بانتظار قوانينٍ تنصفها، وجمعيات توليها قضيتها اهتماماً بشكلٍ أفضل”

في غضون ذلك، عملت حركة This is Lebanon على حثّ العمّال والعاملات المهاجرين/ات على ضرورة أخذ اللقاحات لأنّ العديد منهم كان خائفاً. على سبيل المثال، تقول أيدين: “أنا وأولادي لم نأخذ اللّقاح، لأنّه ليست لدي ثقة به. وأظنّ إذا أخذته ربّما أموت أو يصيبني شيء سيىء”. 

وتبقى المحاولات لتوعية وتلقيح العمال المهاجرين في لبنان “خجولة وغير كافية”، لا سيّما في ظلّ ندرة وغياب خطط استجابة شاملة وآمنة خاصة للفئات المهمّشة.

ما يمكن فهمه هو أنّ حجم الضرر الواقع على العمال والعاملات المهاجرين/ ات كبير، بحيث أنّه لا يمكن أن تتلقّى هذه الفئة المهمّشة من الناس العلاج اللازم في حال إصابتهم بأي مرض، وليس الكوفيد وحده. لذلك تبقى هذه الفئة مهمشة مجهولة المصير، يحاصرها الخوف بانتظار قوانينٍ تنصفها، وجمعيات توليها قضيّتها اهتماماً بشكلٍ أفضل.

أُنتج هذا التقرير بدعم من مؤسسة مهارات ومنظمة انترنيوز في إطار مشروع RIT.

Scan the code